فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجسامهم وإِن يقولواْ تسْمعْ لِقولهِمْ كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ}.
هذا انتقال إلى وضحْ بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم، فكان الوضح الأول مفتتحا بـ {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] وهذا الوضح مفتتحا بـ {إذا رأيتهم}.
فجملة {وإذا رأيتهم} معطوفة على جملة {فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم.
واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية:
لابأس بالقوم من طُول ومن غلظ ** جِسم البغال وأحلام العصافِير

وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي.
ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنُه أن يكون كمالا.
فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فرّبما انقلب الحسن موجب نقص.
فالخطاب في هذه الآية لغير معيّن يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغرّه صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة [الكهف: 18] {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معيّن أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور.
وعن ابن عباس: كان ابن أُبيّ جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان.
وقال الكلبي: المراد ابنُ أُبيّ والجِد بن قيس ومعتب بن قُشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة.
وقال في الكشاف: وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أُبيّ رؤساء المدينة.
وأجسام: جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإِشارة إليه أو ما له طُول وعرض وعُمق.
وتقدم في قوله تعالى: {وزادهُ بسطة في العلم والجسم} في سورة [البقرة: 247].
وجملة {وإن يقولوا تسمع لقولهم} معترضة بين جملة {وإذا رأيتهم} إلخ وبين جملة {كأنهم خشب مسندة}.
والمراد بالسّماع في قوله: {تسمع لقولهم} الإِصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين.
فاللام في قوله: {لقولهم} لتضمين {تسمع} معنى: تُصْغ أيها السامع، إذ ليس في الإِخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإِصغاء لوعي كلامهم.
وجملة {كأنهم خشب مسندة} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف.
ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله: {رأيتهم تعجبك أجسامهم}.
ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين.
و{خشب} بضم الخاء وضم الشين جمع خشبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثمرة، وقيل: ثُمر جمع ثمار الذي هو جمع ثمرة فيكون ثُمُر جمع جمع.
فيكون {خُشب} على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع مفرده.
ويقال: {خُشْب} بضم فسكون وهو جمع خشبة لا محالة، مثل: بُدْن جمع بدنة.
وقرأه الجمهور بضمتين، وقرأه قنبل عن ابننِ كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوبُ بضمة فسكون.
والمسنّدة التي سُندت إلى حائط أو نحوه، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار.
شُبهوا بالخُشُب المسنّدة تشبيه التمثيل في حُسن المرأى وعدم الجدوى، أفيد بها أن أجسامهم المعجب بها ومقالهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخُلوّ الخُشب المسنّدة عن الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لبّ وشجاعة وعلم ودراية.
وإذا اختبرتموهم وجدّتموهم على خلاف ذلك فلا تحْتفلوا بهم.
{مُّسنّدةٌ يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ}.
هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة {كأنهم خشب مسندة}، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموّه، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.
وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.
والصيحة: المرة من الصياح، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجّسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشُوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإِيقاع بهم.
و{كلّ} هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجّسون خوفا من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله:
بها كل ذيّال وخنساء ترعوي ** إلى كُلّ رجّاف من الرمل فارد

وقوله: {عليهم} ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل {يحسبون} وليس متعلقا بـ {صيحة}.
{عليْهِمْ هُمُ العدو}.
يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {يحسبون كل صيحة عليهم} لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالا عن سبب هلعهم وتخوفهم من كلّ ما يتخيّل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألِدّاءُ للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ** وصدّق ما يعتاده من توهم

ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لِجملة {يحسبون كل صيحة عليهم} على هذا المعنى أيضا.
ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لِذكر حالة من أحوالهم تهُم المسلمين معرفتُها ليترتب عليها تفريع {فاحذرهم} وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم.
والتعريف في {العدو} تعريف الجنس الدال على معيّن كمال حقيقة العدوّ فيهم، لأن أعدى الأعادي العدوّ المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي.
وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم.
و{العدوّ}: اسم يقع على الواحد والجمع.
والمراد: الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يُخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم.
{فاحذرهم قاتلهُمُ الله أنّى}.
تذييل فإنه جمع على الإِجمال ما يغني عن تعداد مذامّهم كقوله: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} [النساء: 63]، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعُدولهم عن الحق.
فافتتح التعجيب منهم بجملة أصلها دعاء بالإِهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جرّهُ صاحبه لنفسه فإن كثيرا من الكلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروهٍ مثل قولهم: ثكلته أمهُ، وويلُ أمّه، وتربتْ يمينه.
واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بُلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك، إذ لا نفع له ولا للناس في بقائه، ثم الملازمةِ بين الدعاء بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال.
فهي ملازمة بمرتبتين كنايةٌ رمزية.
و{أنّى} هنا اسم استفهام عن المكان.
وأصل {أنّى} ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى (كيف) كقوله تعالى: {قلتم أنى هذا} في سورة [آل عمران: 165]، وفي قوله: {أنّى لهم الذكرى} في سورة [الدخان: 13].
ومنه قوله هنا {أنى يؤفكون}، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله.
فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته.
فجملة {أنى يؤفكون} بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة {قاتلهم الله}.
و{يؤفكون} يُصرفون يقال: أفكه، إذا صرفه وأبعده، والمراد: صرفهم عن الهدى، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى، أو كيف أمكن لمضلليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة براءة.
{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ لوّوْا رُءُوسهُمْ ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُمْ مُسْتكْبِرُون (5)}
هذا حالهم في العناد ومجافاة الرسول صلى الله عليه وسلم والإِعراض عن التفكر في الآخرة، بلْه الاستعداد للفوز فيها.
و{تعالوا} طلب من المخاطب بالحضور عند الطالب، وأصله فِعل أمر من التعالي، وهو تكلف العُلو، أي الصعود، وتنوسي ذلك وصار لمجرد طلب الحضور، فلزم حالة واحدة فصار اسم فِعل، وتقدم عند قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية في سورة [الأنعام: 151].
وهذا الطلب يجعل {تعالوا} مشعر بأن هذه حالة من أحوال انفرادهم في جماعتهم فهي ثالث الأغراض من بيان مختلف أنواع تلك الأحوال، وقد ابتدأت بـ {إذا} كما ابتدئ الغرضان السابقان بـ {إذا} {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1].
و{إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} [المنافقون: 4].
والقائل لهم ذلك يحتمل أن يكون بعض المسلمين وعظوهم ونصحوهم، ويحتمل أنه بعض منهم اهتدى وأراد الإِنابة.
قيل المقول له هو عبد الله بنُ أُبيّ ابن سلول على نحو ما تقدم من الوجوه في ذكر المنافقين بصيغة الجمع عند قوله: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] وما بعده.
والمعنى: اذهبوا إلى رسول الله وسلُوه الاستغفار لكم.
وهذا بدل دلالة اقتضاء على أن المراد توبوا من النفاق وأخلصوا الإِيمان وسلُوا رسول الله ليستغفر لكم ما فرط منكم، فكان الذي قال لهم ذلك مطّلعا على نفاقهم وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة (13) {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} وليس المراد من الاستغفار الصفح عن قول عبد الله بن أُبيّ ليخرجن الأعز منها الأذل.
لأن ابن أُبيّ ذهب إلى رسول الله وتبرأ من أن يكون قال ذلك ولأنه لا يلتئم مع قوله تعالى: {لن يغفر الله لهم} [المنافقون: 6].
وليُّ الرؤوس: إمالتها إلى جانب غير وِجاه المتكلم.
إعراضا عن كلامه، أي أبوا أن يستغفروا لأنهم ثابتون على النفاق، أو لأنهم غيرُ راجعين فيما قالوه من كلام بذيء في جانب المسلمين، أو لئلا يُلزموا بالاعتراف بما نسب إليهم من النفاق.
وقرأ الجمهور {لوّوا} بتشديد الواو الأولى مضاعف لوى للدلالة على الكثرة فيقتضي كثرة اللي منهم، أي لوى جمع كثير منهم رؤوسهم، وقرأهُ نافع وروح عن يعقوب بتخفيف الواو الأولى اكتفاء بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة.
والخطاب في {ورأيتهم} لغير معيّن، أي ورأيتهم يا من يراهم حينئذٍ.
وجملة {وهم مستكبرون} في موضع الحال من ضمير يصدون، أي يصدون صدّ المتكبر عن طلب الاستغفار.
{سواءٌ عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ}
جملة معترضة بين حكاية أحوالهم نشأت لمناسبة قوله: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم} [المنافقون: 5] إلخ.
واعلم أن تركيب: سواء عليه أكذا أم كذا، ونحوه مما جرى مجرى المثل فيلزم هذه الكلمات مع ما يناسبها من ضمائر المخبر عنه.
ومدلوله استواء الأمرين لدى المجرور بحرف (على)، ولذلك يعقّب بجملة تبين جهة الاستواء كجملة {لن يغفر الله لهم}.
وجملة {لا يؤمنون} في سورة [البقرة: 6].
وقوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} في سورة [يس: 10] وأما ما ينسب إلى بُثينة في رثاء جميل بن معمر من قولها:
سواء علينا يا جميلُ بن معمر ** إذا مِتّ بأساءُ الحياةِ ولينُها

فلا أحسبه صحيح الرواية.
وسواء اسم بمعنى مساو يعامل معاملة الجامد في الغالب فلا يتغير خبره نقول: هما سواء، وهم سواء.
وشذ قولهم: سِواءيْن.
و(على) من قوله: {عليهم} بمعنى تمكُّن الوصف.
فالمعنى: سواء فيهم.
وهمزة {أستغفرت لهم} أصلها همزة استفهام بمعنى: سواء عندهم سُؤال السائل عن وقوع الاستغفار لهم وسؤالُ السائل عن عدم وقوعه.
وهو استفهام مجازي مستعمل كناية عن قلة الاعتناء بكلا الحالين بقرينة لفظ سواء ولذلك يسمي النُحاة هذه الهمزة التسوية.
وتقدم عند قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} في سورة [البقرة: 6]، أي سواء عندهم استغفارك لهم وعدمه.
ف (على) للاستعلاء المجازي الذي هو التمكن والتلبس فتؤول إلى معنى (عند) كما تقول سواء عليّ أرضيت أم غضبت وقوله تعالى: {قالوا سواء علينا أوعظْت أم لم تكن من الواعظين} في سورة [الشعراء: 136].
وجملة: {لن يغفر الله لهم} معترضة بين جملة {سواء عليهم} وجملة {هم الذين يقولون} [المنافقون: 7] وهي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لهُمْ لن يغْفِر الله لهُمْ إِنّ الله لا يهْدِى القوم}.
جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عن حال من أحوالهم.
وجملة {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين} تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية. اهـ.